الصحفيون وفِرْيَة (العمالة والتجنيد) … في الردِّ على صلاح قوش وآخرين (2-2

بقلم .. عطاف محمد مختار

(كن شريفاً أميناً، لا لأن الناس يستحقون الشرف والأمانة، بل لأنك أنت لا تستحق الضعة والخيانة). عباس محمود العقاد

لم ولن أُصبح في يوم من الأيام (عميلاً أو خائناً)، أبيع الوطن من أجل حفنة جنيهات. فالذي يعفّ أن يتستّر على آكلي قوت الشعب؛ فبلا شكٍّ يعفُّ عن بيع الوطن.

لم ولن نبيع شرفنا أو مهنيَّتنا، ولو كُنّا نفعل؛ لفعلناها هُنا داخل السودان، وليس خارجه.. فالصحافة (الصفراء) يُمكنها أن تفتح لك أبواب الفساد على مصراعيه، إن أردتَّ الدخول لتلك المستنقعات الآسنة، والقطط السمان لدينا (على قفا من يشيل).
بتوفيقٍ من الله، كُنتُ أوَل صحفي يكتب عن (القطط السمان) في السودان، عندما نشرتُ أخطر الملفَّات والوثائق، داخل 9 بنوك بالبلاد، حيث تتلاعب القطط بمئات الملايين من دولارات حصائل الصادر والمعاملات المشبوهة؛ والمُضارَبة بها، بواسطة شبكة فساد ترتبط فيها مصالح (القطط السمان) مع بعض قيادات البنوك.. فجَّرْتُ تحقيقاً صحفياً مُزلزلاً، ذكرتُ فيه أسماء البنوك والمُوظَّفين والمديرين المُتلاعبين في شهادات حصائل الصادر، بحيث ينهب (القطط السمان) قوت الشعب ويمصُّون دماء الاقتصاد دون أن يطرف لهم جفن.
ولو كنتُ (عميلاً مُرتشياً)، لاستجبتُ لأساليب (القطط السمان) الرخيصة، حتى لا أنشر غسيلهم القذر. (3) بنوك قدَّمَتْ عروضها الدولارية الحرام على طاولتي.. كانوا يعتقدون أن أموالهم الحرام (ستُزغلل) عينيّ، لكن هيهات!
ولو كنت (عميلاً رعديداً)، لاستجبت لترهيبهم عندما خاب ترغيبهم، عندما تمَّت مُلاحقتي ومُطاردتي في الساعات الأولى من الصباح، ومُحاولة قطع الطريق أمامي، كما يحدث في أفلام (الآكشن). وأبلغتُ حينها الجهات الشرطية بما حدث، ولم تُقصِّر؛ وقامت بالترتيبات اللازمة.
لو كنتُ أسعى وراء الدّراهم والريالات؛ فلن أحتاج لخيانة الوطن، فسكوتي فقط عن كشف أوكار (القطط السمان) كان سيدرُّ عليَّ المليارات.. عمولة واحدة من عمولاتهم الحرام؛ كانت كفيلة أن تُغنيني (لجنى الجنى)، لكن الحمد لله لم نُرَبَّ بالحرام؛ ولا (جنياتنا) سنُربِّيهم عليه.
لا أدَّعي الكمال، فالكمال لله، ولا أدَّعي العصمة، فالمعصوم هو سيد الخلق والمرسلين؛ لكن أسأل الله أن يُريني الحقَّ حقَّاً ويرزقني اتباعه؛ ويُريني الباطل باطلاً ويرزقني اجتنابه.. وكما قال الرسول الكريم: «ليس الغِنَى عن كثرةِ العَرَضِ ولكن الغِنَى غِنَى النفس». نحمد الله؛ فنفوسنا عزيزة لا تقبل الذلَّ والهوان.
جميع (القطط السمان) الذين كشفتهم، دخلوا خلف القضبان، وجميع مديري البنوك المُتواطئين معهم، تمَّ عزلهم من مناصبهم.. و(عش الدبابير) الذي نبشته أعاد في أول أسبوع من النشر (30) مليون دولار لخزانة الدولة، وضُخَّتْ لاحقاً في شريان الدولة قرابة (100) مليون دولار.
حسابي البنكي موجود، فلتتم مراجعته، إن دخلت عليه أيُّ تحويلاتٍ أو مداخيل جديدة غير الراتب، أو طرأ أيُّ تغييرٍ في مظهرٍ من مظاهر حياتي.
لم أُوردْ هذه التفاصيل من أجل الفخر أو (الشو)، إنما لتبيان انه كان بامكاني التكسُّب الحرام السريع، من خلال تحقيق صحفي واحد – ولم أفعل – بدلاً عن الاتجاه للعمالة المزعومة التي وصمنا بها الفريق أول صلاح قوش.
كثيرٌ من الإخوة والزملاء والأحباب طالبوني بعدم الردِّ على ما قاله صلاح قوش؛ وبعضهم قال إني لست المعني، وبعض آخر أشفقوا عليَّ من الدخول إلى لُجَّة تبعات ما سأكتبه، وبعض البعض أيَّدني في الرد.
لم أرد على قوش لجلب شُهرة لنفسي أو لشنِّ حملة ضده. الردُّ جاء لأن ما قاله تسبَّب لي في أذىً جسيم، ترك في نفسي جرحاً غائراً لن يندمل بسهولة، فحديثه عن عمالتنا لم يصبح حديث الوسط الصحفي فقط؛ بل سارت به الركبان. فقوش لم يترك لي خياراً آخر؛ فطعنُه في وطنيتنا ترفضه نفسي، ولم ولن أرضى أن أكون ضعيفاً ذليلاً رعديداً.

قبل (5) سنوات تقريباً، وعقب خروجه من السجن على خلفية اتهامات بالتخطيط لقلب نظام الحكم، طلب صلاح قوش – في حشد جماهيري كبير بالشمالية – العفو عنه من قِبَلِ السودانيين الذين لهم مظلمةٌ عليه. قوش قال إن ما تعرّض له من اعتقال واتهام جاء بسبب الغيرة، وإن بعض إخوته في الحكومة تقمَّصهم شيطان الفتنة وسعوا بالنميمة إلى الحُكَّام، وتعجلوا في إصدار الأحكام دون تثبُّت، على الرغم من وضوح الرؤية في القضية. وشبَّه ما حدث له من اعتقال وسجن بما حدث لنبي الله يوسف عليه السلام من إخوته نتيجة الحسد والغيرة. وشكا قوش مما سمَّاه بظلم أولي القربى، وقال: “جئت أشكو عصبة من عشيرتي أساءوا إليَّ”.. قوش شكَّكَ كذلك في نزاهة لجنة التحقيق معه، ووصفها بأنها غير مُحايدة ومُوجَّهة سياسيّاً، ودلَّل على ذلك بتلكُّؤها في التحرِّيات، وذلك طبقاً لهيئة الدفاع عنه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله عز وجل أنه قال: (يا عبادي إني حرَّمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم مُحرَّما فلا تظالموا …).

يا قوش، لقد شكوتَ أنت بنفسك من ظلم عشيرتك لك. والآن أنا أشكوك لنفسك من ظلمك لي، فإذا دعَتْك قُدرتك لظلم الناس فتذكر قُدرة الله عليك.

وصْمُ الصحفيين بالعمالة ليس بالأمر الجديد؛ فكثيراً ما يُتَّهمُ أهل الصحافة بأنهم (عملاء، متآمرون وخونة). فقد انتاشنا بهذه السهام من قبْل رئيس البرلمان الأسبق أحمد إبراهيم الطاهر، حيث اتهم الصحفيين بالتخابر، واعتبر أن اتصال الصحفي بقادة الحركات المُسلَّحة وكتابة أخبار وتقارير عنهم خيانة للوطن، وقال : “لا يوجد مبرر لأي صحفي للاتصال بقادة التمرُّد، دي خيانة للوطن، والاتصال بالأجنبي خيانة للأمة ووصمة عارٍ لصاحبها”.
فكتبتُ حينها: (أبشع وأقذع التهم، نُرمى بها نحن معشر الصحفيين، بين كل فترة وأخرى، دون أي دليل أو إثبات أو برهان.. أقول للطاهر: نحن أعرف بتقدير أمورنا، والتمييز بين الصالح والطالح. لسنا خونة، ولسنا بائعين للوطن، نحمل الوطن في حدقات العيون، لم نتمرَّد عليه، ولم نرفع السلاح، ولم نسفك الدماء … لم نتطاول في البنيان من العدم، ولم يذكرنا المُراجع العام في التجاوزات، التي يرفعها سنوياً لكم في تقاريره، وتقبع في أدراجكم.. لا تُزايدوا على وطنيتنا) .

ما هو (الترمومتر) الذي يرصد درجة الحرارة الوطنية للسياسي والوزير والنظامي والدبلوماسي، ويجعلها في أعلى درجة؛ تُخوِّلهم مقابلة رؤساء ووزراء وسفراء الدول الأجنبية، دون أن يكونوا عرضةً للاختراق؛ بينما تكون درجة الحرارة الوطنية للصحفيين في أدنى درجة، ولا تُخوِّلهم لإجراء مثل هذه المُقابلات؛ بدعوى أنه يتم اختراقهم؟
بالله عليكم؛ دلونا على تلك المتاجر التي تبيع صكوك الوطنية حتى يتمكَّن الصحفيون من شرائها!
ولرئيس اتحاد الصحفيين الأستاذ الصادق الرزيقي أقول: أنت أكثر شخصٍ يعلم أن الصحفي يعمل في فضاء مفتوح، لا يُقيَّد فيه بمصادر محددة لاستقاء المعلومات، يبني علاقات مع مصادره من الخفير حتى الوزير والسفير. كنتُ أتمنَّى أن تُدافع عن منسوبيك بصورة تنفي عنهم العمالة لمُجرَّد اتصال صحفي بسفارة أو مُنظمة. فأنت عضوٌ فاعلٌ في اتحادات عالمية وإقليمية للصحافة، ولديك علاقات ممتدة مع الجميع؛ والسفارات والسفراء جزءٌ أصيل منها.. ألم تقم أنت شخصيَّاً الأسبوع الماضي بعمل حفل وداع للسفير الصيني الذي أكمل فترة عمله بالخرطوم؟ هل يُمكن أن نصف هذه الدعوة بأنها علاقة مشبوهة؟ بالتأكيد لا، لأنها تأتي ضمن صميم عملك.
أستاذ الرزيقي.. بناء متاريس وحوائط مثل هذه، سيكون أكبر عائق للصحفي في استقاء معلوماته، وسيُستخدم آجلاً غير عاجل في حصار الصحافة، ولا تستبعد أن تكون أنت أول المُكتوين بتلك النيران.
وحين التزم رئيس اتحاد الصحفيين الصمت حيال هذه التهمة، كان الأمين العام للأُمم المتحدة أنطونيو غوتيريش يتحدَّث يوم الجمعة في مناسبة اليوم الدولي لإنهاء الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين، قائلاً: (في فترة لا تكاد تتجاوز عقداً من الزمن، قُتل ما يزيد على ألف صحفي وهم يؤدون عملهم الذي لا غنى عنه. وفي تسع من كل عشر من الحالات، تبقى القضية دون حسم ولا يخضع للمحاسبة أحد… وقد قُتل في هذا العام وحده ما لا يقل عن 88 صحفياً. وتعرَّض ألوفٌ عديدة أخرى من الصحفيين للاعتداء أو المضايقة أو الاحتجاز أو السجن بتهم مزيفة، ودون مراعاة الأصول القانونية الواجبة. وهذا وضع شنيع ولا ينبغي أن يصبح هو الوضع الاعتيادي الجديد. عندما يُستهدف الصحفيون، فإن المجتمعات تدفع الثمن ككل.. أُناشد الحكومات والمجتمع الدولي توفير الحماية للصحفيين وخلق الظروف التي يحتاجون إليها لمزاولة عملهم.. وأودُّ أن أغتنم مناسبة هذا اليوم لأُحيِّي الصحفيين الذي يؤدون عملهم كُلَّ يوم على الرغم مما يتعرَّضون له من ترهيب، ويتهددهم من أخطار. فعملهم – وعمل من قضى من زميلاتهم وزملائهم – يذكّرنا بأن الحقيقة لا تموت أبداً. وكذلك يجب ألا ينطفئ وهج التزامنا بالحق الأساسي في حرية التعبير).
وختمه أنطونيو غوتيريش حديثه: (إن كتابة التقارير الصحفية ليس جريمة.. فلنقف معاً دفاعاً عن الصحفيين من أجل الحقيقة والعدالة).
أستاذ الرزيقي.. الاتحادات العالمية للصحافة والأُمم المتحدة، اعتمدت مواثيقها على حقوق الإنسان، وعلى التدفُّق الحُرِّ للمعلومات وحُرِّية الصحافة، وأكدت على أهمية هذه الحقوق الأساسية في توفير المعلومات للمواطنين في جميع أنحاء العالم، فحُريّة الصحافة وحُريّة تداول المعلومات ليستا ضروريَّتَيْن لتبليغ المواطنين بالأهداف فحسب، ولكن أيضاً لتمكينهم من مساءلة قادتهم عن الوفاء بالتعهدات التي قطعوها، فحقوق الإنسان والمجتمعات الديمقراطية والتنمية المستدامة رهينة بحرية تداول المعلومات، والحق في المعلومة رهين بحرية الصحافة.
إذن دعم حرية الصحفي في الحصول على المعلومة من مختلف المصادر، لم يعد شأناً محليَّاً خاصَّاً بدولة بعينها، بل هو شأن عالمي تدعو له الأُمم المتحدة وتحثُّ الجميع على الالتزام به. والسودان ليس جزيرة معزولة عن بقية الأمم، فهو عضوٌ في الأمم المتحدة، مُوقِّع على مواثيقها الدولية، وتُحاول الدبلوماسية السودانية طوال سنوات إخراج السودان من عنق زجاجة أزمة حقوق الإنسان والتضييق على الحريات التي ظلَّ مُتَّهماً بانتهاكها لعقود عدَّة، بسبب عدم اكتراث الساسة لها؛ وعدم تفهُّمهم لعمق دوامة الأزمات والحصار الخانق للبلاد بسبب القوانين والإجراءات المُقيَّدة الموضوعة. وهذه الجزئية تحديداً تُعتبر ضمن البنود في مفاوضات السودان وحواره الجاري مع الولايات المتحدة الأمريكية لرفع اسم السودان من قائمة الإرهاب. وها هو وزير خارجيَّتنا موجود هذه الأيام بواشنطن لاستئناف الحوار معها.
وأمس الأول، أعلنت الولايات المتحدة أنها مُستعدَّة للتعاون مع الخرطوم لشطب السودان من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، ولكن بشرط قيام السلطات السودانية بمزيدٍ من الإصلاحات. ورحَّبت أمريكا بالتزام السودان بتحقيق التقدم في المجالات الرئيسية، و(حرية والصحافة من ضمن هذه المجالات)، وقالت إنها سترصد التقدم في هذا الشأن.

أعجبتني مُداخلة أحد الزملاء حول موضوع (مشروع العمالة) عندما كتب في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي: (الصحفي أصلاً عبارة عن دولة متحركة تصنع الأحداث وتُدافع عن نفسها.. والصحفي لا يعرف الحدود الجغرافية ولا لغة الخوف والتقوقع.. الصحفي عالمٌ مفتوحٌ يستقبل ما يروق له وما لا يروق له.. ويستخدم غرباله ليفرق بين الحق والباطل والصحيح والخطأ.. لا عيب على الصحفي لو بنى علاقات مع كل سُكَّان الكرة الأرضية.. وليس معنى ذلك أن يأتي على حساب القيم والدين والسيادة والشرف.. علاقات الصحفي عمل مهني وليس عمالة.. اللهم إلا إن كان هو يفضل الانغماس في العمالة وبيع المواقف).

(الله لا يتركنا ندَّعي أيّ شيء إلا ويمتحننا فيه، بأن يضعنا أمام مخاطر الكلمة ومخاطر التبعة، فيُطالبنا بثمن الصدق إن كنّا صادقين، والله يمتحننا في ظاهرنا وباطننا ويمتحن جواهرنا وقلوبنا وأفعالنا). مصطفى محمود.

اقرأ أيضًا
تعليقات
Loading...