وفي الدولار والدبِّ لأمر الناس إفسادُ!

قال لي عبد المطلب الفحل ونحن في الإذاعة: بروفيسور عبد الله الطيب يسأل عنك.

قلت له: يسأل عني أنا؟

نسيت أنني كنت قد أودعت قبل ذلك نسخة من رسالتي للدكتوراه في مكتبة مجمع اللغة العربية.

بعد قليل أطل علينا البروفيسور بقامته وهيبته، وما إن قدمني إليه الأستاذ عبد المطلب، حتى أخرج من حقيبته خطاباً، فتناولته مستغرباً.

إنه خطاب رسمي يشكرني على إهداء مجمع اللغة العربية رسالة الدكتوراه، ويفيد بأن الرسالة ستوضع في خزانة الكتب العامة ليطلع عليها القارئون ممن يرتاد دار المجمع.

لقد نالني العجب من هذا الأسلوب الفريد في التواصل، فالخطاب مكتوب باليد بخط الأستاذ الكبير، ووضع تاريخه هكذا: 6 من شهر عاذل 1413ه = 28 يناير 1993م، وناهيك بهذا الحرص من الأستاذ في تسليم الخطاب للمرسل إليه يداً بيد.

تذكرت كل ذلك وأنا أتابع في الأيام الماضية معمعة الدولار في بلادنا… لكن ما شأن أستاذنا عبد الله الطيب بذلك وهو الذي حدثنا ذات مرة أن أكبر مبلغ من المال تسلمه في حياته عشرة آلاف دولار، أرسله إليه ناشر ليبي كان يطبع وينشر كتاب (المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها) دون إذن منه.

في سنة 2000م، تسلَّم الأستاذ مبلغاً أكبر بكثير حينما فاز بجائزة الملك فيصل العالمية، وتوفي بعدها بثلاثة أعوام. لقد سمعت منه ـ رحمه الله ـ في محاضرة له عن النشر والناشرين في السودان أقمناها في مجلس الصحافة والمطبوعات أن المؤلفين والكتاب لا يأتيهم المال إلا في آخر عمرهم فلا ينتفعون به.

قصيدة عبد الله الطيب بعنوان: الدبُّ والدولار كنت قرأتها قديمًا في ديوان أصداء النيل، واجتهدت في الحصول عليها وأنا بعيد عن مكتبات الخرطوم، فلم أعثر عليها حتى استعنت بصديق هو الأستاذ الدكتور الصدِّيق عمر الصدِّيق مدير معهد عبد الله الطيب بجامعة الخرطوم.

القصيدة مناظرة طريفة بين الدب الروسي والدولار الأمريكي، يختمها الشاعر بنصيحة غالية، ليت أهل الأموال والاقتصاد يلتفتون إليها.

تقول القصيدة:

وقال السيــد الدولار إني منعـــمٌ معطي

ولا بد لكم من نفرٍ غالين من رهطي

لِكَيما يُنفقوا ماليَ بالقسطاس والقسط

وويلٌ للذي أطعمتُه ماليَ من سخطي

وأنتم معشرٌ سوْدٌ رعاة الطلح والسنط

وأنطيناكمُ الكوثر فارضَوْا بالذي نُنطي

من معاني الكوثر عند العرب الخير من كل شيء، ومنها المال الكثير. وكأنَّ الدولار رمز الجبروت والطغيان يمنُّ على أهل السودان بأنه المنعم المعطي وقد أعطاهم الكوثر… وأن عليهم الحذر من سخطه، بل إن إنفاق المال لا يكون توزيعه بالقسط والعدل إلا على أيدي نفر غالين من رهط الدولار، يعني من (البنك الدولي)! أما أنتم فلا تملكون من أمركم شيئاً، فأنتم سفح جبل كثير الحجارة (سَوْد). شارح المعجم يرى سوادها لما في هذه السفوح والقيعان من المعادن. يقول: وأنتم معشرٌ رعاة طلح وسنط، فمن أين لكم أن تنفقوا المال بالقسطاس المستقيم؟ هكذا بدا لي معنى سَوْد والمعنى في بطن الشاعر.

هكذا تكلم الدولار، فماذا قال الدبُّ:

وقال الدبُّ إنا لكمُ أيضاً مُعينونا

وإنا نمنح التصنيع إن كنتم تريدونا

ولسنا نحن كالدولار إنا أريحيــُّونا

وأرسلنا إلى النجم صواريخاً يدوِّينا

وقد نحتقر الرجعية الرعناء والدينا

سوى الإسلام إنا لبني الإسلام راعونا

والأبيات واضحة المعنى، إذ يتباهى الدب الروسي بأريحيته، والأريحي الواسع الخلق المنبسط للمعروف، وهذا بالطبع ادعاء عريض…

ومن ادعاء الدب أيضاً ما يذكره الشاعر على لسانه، إذ يقول:

لدينا أمة منهم بسيحانَ وجيحانا

وبِيكالَ وبلكاشَ وقزوين وقازانا

وفي رقعتنا الرحبة جزءٌ من خراسانا

وهم مثلكمُ فقهاً وتوحيداً وإيمانا

وقد يتْلُون من لينين بالأسحار قرآنا

وقد نرسلهم للجامع الأزهر أحيانا

هنا يعدِّد الدب الروسي ما في رقعته الرحبة من أوطان للمسلمين من أمثال بيكال وبلكاش وقزوين وقازان. وهذا كله حديث خرافة، فما أصاب المسلمين في قازان وبيكال من بطش ونكال، مشهور جداً، وقد ظهر ذلك كله بعد انحسار طغيان الدب الروسي.

ويأتي بيت القصيد ـ كما يقولون ـ حين يسفه الشاعر العالم عبد الله الطيب ما قاله الدولار وما ادعاه الدب:

كذا قالوا ولا يعلم إلا الله ما كادوا

وفي الدولار والدب لأمر الناس إفساد

ومن يركنْ إلى العون فلِلْمُعطِيه ينقاد

وهذا النيل ملءَ العين كم يسمو ويزداد

ولا يُخلف منه الدهرَ إذ واعد ميعاد
ولا ذاق لباس الجوع في واديه مرتاد
إذن، هذا هو المنهج الذي يبلغنا أهدافنا في نهضة الاقتصاد ووفرة المال؛ ألا نركن إلى العون، ونعتمد على الذات. لكن هيهات مع هؤلاء الجشعين الذين يعملون ليل نهار على (تسييل) الوطن وتصدير ثرواته للخارج، يضخمون بها أرصدتهم بالدولار في بنوك العالم.
ولما أخرجت سفوح (السَّوْد) معادنها من الذهب والمعادن، تهيأ الطامعون لـ “تهريب السودان” كله إلى الخارج، ليبقى للوطن الفقر والشكوى:

نشكو من الفقر غادينا ورائحُنا

ونحن نمشي على أرضٍ من الذهب!

ينشر أيضاً في صحيفة السوداني.

اقرأ أيضًا
تعليقات
Loading...